بغلة.. الوالي……! – وكالة بابليون
أحدث_الأخبار
سياسية

بغلة.. الوالي……!

سعد الاوسي

تبقى حكاياتنا الموروثة عن الاجداد والاباء منبعا وإرثا لا ينضب ابدا.. ننهل منها الكثير الكثير من العبر والدروس كونها تحاكي حياتنا اليومية وبكافة تفاصيلها، وفي مراحل الصبا كان والدي على الدوام يزق فينا الأمثال والأشعار والحكايات الشعبية التي لها من المعاني والآثار في النفس الشيء الكبير، ومن بين ما كان يردده على مسامعنا بيت من الشعر الشعبي (الدارمي) الذي يقول:

لتأمن ابدنياك تاخذهه إلك مال
البغلة 6000 والوالي حمّال!

ولأننا عائلة تنحدر من الريف العراقي فان العلاقة ما بيني وبين والدي تجعلني لا ادخل معه في جدال او سجال او سؤال عن مغزى بعض الحكايات او الاشعار فهو احيانا يرغب ان لا نفهمها او ندركها في حينه وان نتمعن فيها الى ان نعرف معناها دون الرجوع اليه! وذات يوم ازداد الفضول في داخلي حين سمعت من والدي هذا البيت من الدارمي، فذهبت الى عمي الاقرب الى نفسي (الحاج عبد اللطيف ابو احمد) ليبين لي حكاية هذا البيت ومعناه فقال: يحكى ان احد الولاة كان يمتلك (بغلة)! وكان هذا الوالي قاسيا ودكتاتورا ظالما لابناء ولايته الا انه يعطي من الدلال الشيء الكثير لبغلته التي كانت تسرح وتمرح (على كيفهه)! في كل ارجاء الولاية وهي ترفس من تشاء دون حسيب و(ياويله من سواد ليله)! من يفكر في ايذائها او تعكير مزاجها! وذات يوم تعرضت هذه البغلة لوعكة صحية الزمتها الفراش فبدأت وفود الناس تتقاطر على قصر الوالي! مقدمة التمنيات بالشفاء العاجل لـ(المحروسة)! ويقف البعض عندها ويقطر لها الماء كي تستفيق! والآخر يدلك ارجلها! والبعض يبكي عليها ويقول (جانت خوش بغلة)! والاخر يؤكد ان هذه البغلة كانت تتفقد احوال (الشعب)! وتشاركهم همومهم وافراحهم! بل راح البعض من (اللوكية)! يلطم امام الوالي ويقول (خسارتنه جبيرة)! والدموع تنهمر من عيونهم تقربا وتملقا للوالي الذي لم تنفع محاولاته حتى بعد حضور فريق طبي عالي المستوى من اجل ايقاف تدهور صحة (البغلة) التي سرعان ما فارقت الحياة.. فبدأ (الصياح)! و(العياط)! و(النياح)! عليها، بل قام البعض بنصب مجالس تأبين ناحرين الذبائح في ثوابها! وبدأت برقيات التعازي تنهال على الوالي من كل حدب وصوب! واعلن الحداد الرسمي بأمر الوالي وفرض حظر التجوال! ونصبت السيطرات والاسلاك الشائكة والقواطع الكونكريتية لحماية (السادة المعزين)! خوفا من تفخيخ مجالس تأبين (بغلة الوالي)! وحان موعد تشييع (البغلة) فسار خلفها اكثر من ستة الاف معزيا حتى توارى عليها التراب، وكان هذا العدد يمثل رقما كبيرا في ذلك الزمان، بعدها امر الوالي باقامة نصب تذكاري فوق قبر (بغلته العزيزة)! ولم يتحمل الوالي هذا الحدث المأساوي فانتقل الى جوار ربه بعد (بغلته) بأشهر قلائل! الا ان جثته تركت دون دفن ولم يقترب احد منها، فبدأت تنبعث من الجثة رائحة كريهة الامر الذي اضطر البعض الى دفنه في مكان مغمور بعد ان تم اعطاء احد الحمالين مبلغا زهيدا مقابل اكمال عملية الدفن!

حكاية بغلة الوالي استوقفتني هذه الايام وانا ارى ما يجري في بعض وسائل الاعلام التي (تردح) لهذا وتمدح لذاك وتقدم الولاء والطاعة لمن يدفع ويمول تلك الوسائل التي اخترعها البعض ليظهروا من خلالها صورهم واخبارهم وانهم (حامين الحمى)! و(واحدهم شقي وما يلتقي)! وانهم رمزاً للنزاهة والعفة والشرف حتى بتنا نرى صور اطفالهم واسماءهم تملأ صفحات تلك الصحف التابعة لهم (فهذا عيد ميلاد توتي) وتلك مناسبة نجاح (توحه) وهكذا فات على هؤلاء انهم ما ان يغادروا الكراسي التي يجلسون عليها حتى يصبح مصير كل واحد منهم كمصير (الوالي ابو البغلة)!

اظهر المزيد
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى